في قانون الرياضيات الموجب في السالب سالب، لكن في قانون البشر قد تتغير الموازين، فلطالما كانت الإيجابية والتفاؤل أقوى بكثير من السلبية والتشاؤم، لطالما رُجِّحت كفة الحياة للروح المفعمة بالحيوية، تلك الروح التي تبث بصيص الأمل في كل ثغرةٍ وعثرة. تلك نفسها التي تجد صاحبها يتخطى جميع الأزمات واقفا وقفة الشموخ والتحدي، هادئا وكأن شيئا لم يكن، ذاك الشخص نفسه الذي كثيرا ما ينعته الناس باللا مبالي، الذي يعيش حياة ضربها من نسج الخيال، حياة وردية اكتسحت أمانيه وأحلامه فقط، ولا وجود لها على أرض الواقع. فتجده إن نظر لأي موضوع، إلا ونظر إليه من تلك الزاوية الإيجابية، حتى وإن كانت ضئيلة، فيقابل بالنقد والانتقاد، كيف لك أن تستهين بأمر مهم كهذا؟ كيف استطعت استحقار شأن عظيم كذاك؟ كيف سوَّلت لك نفسك أن تستصغر هذا؟ كيف...؟ كيف...؟
لكن في الحقيقةِ البحتة، قد يكون غيره من يهوِّل ويستعظم أشياءً بسيطة، يُضخِّم الأمر ليجعله يبدو وكأنه قضيَّة مستعصية يستحيل حلها. محيطٌ سلبي، محصور بين الوسوسة والخوف، حائم وسط تلك الحلقة المفرغة، دوامة منبعها نقص الإيمان والوازع الديني.
قد يتساءل الكثير عن علاقة الإيجابية بالدين، وكيف يؤثر نقص التفقُّه على حياة الفرد المعنوية. لكننا كمجتمع مسلمٍ، يجدر بنا أن نؤمن بجميع أركانه، ومن بينها الإيمان بالقضاء والقدر، خيره وشره، أن نتقبل الحياة الدنيا كما هي، وأن نحسن الظن بالله عز وجل، أنه هو وحده من يُسَيِّر أقدارنا، أنه يعلم ما تخفيه مكاتيبنا، وأنَّ الشر الذي نهابه نحن ما هو إلا رحمة من عنده سبحانه وتعالى، فقد قال في سورة البقرة: "وَعَسَى أَنْ تَكرَهُوا شَيْئًا وهُوَ خَيرٌ لَكُم وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وهُوَ شَرٌّ لَكُم وَاللّٰهُ يَعلَمُ وأَنتُم لاَ تَعْلَمُون".
فإن أيقن كل واحد منا أنه في الدار الآخرة مصير أعظم بانتظارنا، لارتاح بالُه آملا بالظفر بذاك الفوز الكبير... لكن لو سألك أحدهم عن الفوز بالحياة الأولى، كيف للمرء أن يحظى بتلك الطمأنينة بين دهاليز الحياة السلبية، كيف له أن يُشحن بطاقة إيجابية، وكل محيطه يؤول للعكس، لأجبتك أن يركز على نفسه لا على محيطه. كيف لا، وهو منشغل بعدِّ مكايد الحياة ومصائبها، وينصرف عن التفكير بنفسه وروحه.
قد يجد الكثيرين نفسهم وسط كومة من المشاكل المستعصية، تتراكم واحدة تلو الأخرى، مُشكِّلةً أزمة تحمل معها عاصفةَ السلبية، فيجدوا من تلك الأزمات مبررا لتشاؤمهم، ذاك التشاؤم الذي كثيرا ما ينتهي به المطاف للعدوانية، كرهٌ للحياة العادية، تنمرٌ وتذمر، لكن كما يقول الرافعي: " يجعل الله الهموم مقدمات لنعم مخبوءة"، فكثيرا ما تلي تلك التخبطات حالة من التوازن والتكافؤ، فإن بعد العسر يسرا.
السلبية مفهوم نسبي نوعا ما، ولا بد منه لحدوث التوازن المعيشي، فلو لم نذق طعم الخسارة، لما عرفنا قيمة النجاح. فكل واحد منا يحمل بداخله كِلا القطبين، نحمل بين ثنايا أفئدتنا مشاعر السلبية والإيجابية على حدٍّ سواء. لكن تتباين درجة الاستيعاب بين شخص لآخر، تجد من يتميز بسرعة البداهة وحدة التركيز، فيستطيع جانبه المشرق أن يتغلب على كهفه العاتم، أن تتفوق إيجابيته وحسن ظنونه على تشاؤمه وتطيراته. على عكس الأشخاص السلبية، فتجدهم يهوِّلون الأمور، فلو رسمت لهم نقطة سوداء على ورقة بيضاء، لاختفى كل ذاك البياض، ولركزوا على ذلك السواد فقط.
نعيش في أوقاتنا اليومية، العديد من مظاهر السلبية الغير مباشرة، التي تكون تدريجية ومتباينة. فعلى سبيل المثال، تجد فكرة الهجرة مرسخة في ذهن معظم الشباب، ليخطَّ مشاريعه على أمل مغادرة بلاده، متغربا ومتوجها لإحدى البلدان الأجنبية. قد يرى الكثير أن هذا طموحا يصبو إليه الشاب الفتي، لكن في الحقيقة، هذا نوع من السلبية اتجاه وطنه أولا، ونقص لتقدير قدراته. لماذا قد تكون أسمى أحلامه متعلقة بدولة أخرى؟ ما السبب الذي يمنعه من تحقيقها ببلده؟ ما الفرق بين ظرفي المكان يا ترى! الفرق واحد وبسيط، هو وجهة نظره، والزاوية الحادة التي حصرت أفكاره المحدودة، تلك السلبية المتداولة جيلا بعد جيل، التي جعلت من المكان والزمان حجة وذريعة لتبرير الفشل، الذي غالبا ما يكون متعلقا بسوء استغلال وتسيير القدرات الفردية الذاتية، التي قد تكون سببا لوصوله للذروة، دون تغيير المكان، ولا حتى تأجيل الزمان.
السلبية والإيجابية، بالرغم من كونها شعورين حسيين غير مرئيين، إلا أنه بإمكانهما الانتقال من شخص لآخر. فقابلية العدوى والاكتساب تتعلق نسبيا بشخصية المرء، والأفراد المحيطين به، وكذا مدى تأثيرهم على نفسيته البسيكولوجية، وتقبله للأفكار المنبعثة منهم. لذا يجب على كل واحد منا، مراعاة وحسن انتقاء الأشخاص المحيطين به، والابتعاد كل البعد عن السلبيين منهم. أما بالنسبة للسلبي ذاته، فعليه محاولة الخروج من تلك القوقعة التي تحجب عنه جمال الحياة، والتي تجعله يرى الظلام في وسط النهار. فالحياة واحدة، نعيشها بحلوها ومرها، ولا مجال للمثالية فيها، إلا من خلال ما نراه وما نريده نحن، فاجعل من إيجابيتك مجالا لسعادتك.
بوشنافة كنزة
(Partenariat "LIBERTÉ-Digital"/"Charrette-club")